|
دماء على الأرض في العباسية - 29 أبريل 2012 |
قصتي قصة بنت وقفت في يوم السماء بتمطر فيها كرات نار, في وسط الخبط و سرينة الاسعاف و الطوب اللي بيطير حواليها, وقفت لوحدها.
وقفت وشها للنار, فردت ضهرها, نشفت جسمها و ابتدت تتمرن انها ما تتنفضش مع كل ضربة رصاص, ما تدورش وشها كل اما جسم مغلف بالدم يتشال من على الأرض, و تعيط, بس و هي ثابتة في مكانها.
افتكرت بداية قصتي. افتكرت ازاي وقتها عرفت اني باخطو أولى خطوات أهم رحلة في حياتي, هاكتشف فيها بنت تانية مستخبية جوايا, بس كمان هيبقى رفيقي الأساسي فيها "الوحدة"
احتضنت قدري و بقيت في كل معركة, بابتكر طرق أفضل للاختفاء في وسط الناس, للبهتان, لتدشين وحدتي في وسط الخرطوش و الغاز, أغطي شعري, الف كوفية على وشي, احني ضهري, أدفس ايدي في جيوبي, و اتسحب للصفوف الأمامية.
عمري ما فهمت ليه باطلع قدام. ما باعرفش ارمي طوب, لو حدفته غالبا هيصيب الثوار قبل اما ييجي في العدو, بس كنت دائما باحس اني لازم أبقى قدام. يمكن عشان أحكي ان اللي قدام دول جدعان. دول أجدع الجدعان, مش بلطجية ولا مجرمين. دول اللي لما الخرطوش و الرصاص بيتضرب و احنا نوطي و نجري, هم ياخدوا خطوة لقدام و يغازلوا الموت و جبروت الأعداء.
دول اللي خلوني أرتضي الموت بس عشان في وسطيهم.
في يوليو كتبت اني
اتصالحت مع الموت.
أنا العيلة اللي أسوأ كوابيسها الموت, شوفت الموت دافي, منور... حلو؟
غالبا غلط أوصفه ب "حلو" بس كان في حاجة ملهمة في مقاومة الرصاص بالجسد, بالهتاف و الثبات و ساعات كمان النكت, في الموت في شوارع وسط البلد في عز النهار و احنا بنهتف للثورة و في وسط صحبة حلوة.
بس ديسمبر جه ببرده و أشباحه و رجعلي الموت و كوابيسه
موتنا كان رخيص. ماكانش موت قوة و نور زي يونيو, ماكانش موت بتحدي في وسط هتاف و صخب و ناس بتشجعك على التقدم و الثبات. موتنا كان من سكات, في الظلام, رصاصة, اتنين, تلاتة, شهيد, اتنين, تلاتة.
كان موت بارد, قاسي, كله وحدة.
شهيد يقع , جسمه يخبط الأرض, دمه يسيل و يحررلنا رقعة جديدة من الأسفلت و يتشال في صمت.
الميدان كان كئيب, ضلمة. على الأرض مسارات دم الشهداء متحددة بالطوب.
كل ثائر هناك في الساعات الأخيرة قبل الفجر: مشروع شهيد . كل ثائر مفترش الأرض في حتة بيبكي, بيدعي, ساكت, مذهول, يمكن خايف, و في ايده حتة قماش عليها دم شهيد, مستني موته.
وقتها خفت. مش من الموت. خفت منه يخطفني و أنا وحيدة.
خفت أموت, و ماشوفش وش مألوف يطمني, يبتسملي, يحاول يلحق اصابتي, او حتى يصرخ عليا, وش مألوف يودعني قبل ما أمشي.
لحد أما قابلتهم. "ش" و "ك "و "ع" : رفاق المعارك.
و بقيت أتنكر و أعمل فيها ولد و أطلع معاهم للصفوف الأمامية, و هم بطلوا يحاولوا يقنعوني بالرجوع عشان انا بنت. بقينا بنتحرك مع بعض, و لو عملت حركة من حركاتي و اتسحبت بعيد عنهم في وسط الضرب, من سكات بالاقيهم ظهروا تاني جنبي.
ماعنديش تفسير لاشمعنى هم اللي بقوا رفاق المعارك. ليه ماقدرتش أواجه الاشتباكات في وسط أصحاب الطفولة و اخترت التلاتة دول.
ما اعرفش.
كل اللي عارفاه ان فيا حتة اتطمنت لما تخيلت اني ممكن اتصاب أو أموت و هم حواليا. نسخة صغيرة مني فردت ضهرها و قررت تحاول تواجه " خوفها من الموت" بشجاعة أكتر لأن في ضهرها تلاتة أصحاب جدعان.
بس الحياة طلعت أقسى من كدة. مش مكفيها وجع القلب اللي بقى طقس يومي في حياتنا. ولا مكفيها أخواتنا و أصحابنا يتبهدلوا في السجون أو يستشهدوا غدر, مش مكفيها ان بقى المعتاد لقا الأصحاب و الأحبا في المشارح و المستشفيات و المحاكم, ولا مكفيها اننا ماعندناش حتى رفاهية اننا نحزن على اللي ماتوا, أو نستسلم للحظة لاحساس الارهاق اللي هيقضي علينا, لكن كمان لازم نخسر الأصحاب!
الثورة رغم قسوتها بتخليني انسانة أكتر, خليتني أحلم بطفلة تكبر جوايا و أنا واقفة على بعد خطوات من الموت, خليتني ألاقي صحبة أتسند عليهم و أرضى بالوجع في وسطيهم.
لكن السياسة قذرة و مهلكة, بتكسر كل الروابط الباقيالي بالنسخ الأنقى من أحلامي.
الثورة قربتني من "ش" و "ك "و "ع" و السياسة كبرت المسافات بيننا.
السياسة رجعتني تاني "وحيدة"
و المعركة الجاية, هارجع تاني أتفنن في ابتكار طرق أفضل في التنكر: أغطي شعري, الف كوفية على وشي, أحني ضهري, أدفس أيدي في جيوبي, و أتسحب للصفوف الأمامية ... لوحدي